تابعنا على انستغرام

“صيف السراغنة وحلم الطفولة” … ورقة تاريخية حول عاصمة السراغنة وأبناءها أنجزها الصحفي الدكتور حسن لوحمادي .

تساوت 24
2022-11-20T13:47:54+01:00
الجهوية
تساوت 2420 نوفمبر 2022
“صيف السراغنة وحلم الطفولة” … ورقة تاريخية حول عاصمة السراغنة وأبناءها أنجزها  الصحفي الدكتور حسن لوحمادي .

صيف السراغنة وحلم الطفولة.

ولدت بحي القلعة الراشية الذي كان محاطا بأسوار عالية وضخمة يصعب هدمها، إذ كان يصل عرض الحائط الى اربعة أمتار. تكمن صلابة السور في مواد البناء التي كانت مستعملة منذ قرون من الزمن خليط من الجبص والاحجار والرمل والطين. وهذا يحيل على عظمة المشيد لهذا البنيان، السلطان مولاي اسماعيل. لكن التاريخ تم اغتياله قبل ولادتي باستعمال المتفجرات، تداعت الاسوار ومعها باب الناعورة وباب المحروق، لفسح المجال لزحف الحداثة في بعدها العمراني بظهور تجزئة القلعة الراشية، وهذا القرار الجائر، يعطي فكرة واضحة عن اسباب طمس الهوية الثقافية والتاريخية للسراغنة وزمران. ظل سيدي المشكوك يصارع زحف العمران هو الآخر، ضريح كان يتردد عليه المسلمون ويهود السراغنة، لهذا سمي بسيدي المشكوك كان مشكوكا في امره، البعض يزور الموقع للتبرك، لكن بركة الضريح لم تشفع له، وللملعب الذي كان مجاورا له، إذ تمت إزالة معالم الفرجة الكروية والضريح معا لإقامة مسجد الحسن الثاني الذي اضفى طابعا عصريا على الحي. عشب حديقة المسجد كان رطبا، منعشا في فصل الصيف، كنا نستلقي فوق البساط الاخضر حتى وقت متأخر من الليل. كان المكان يوحي بالحديث عن كل المواضيع، النقاش الدائر آنذاك حول المنتخب الوطني والتطاحنات الانتخابية والسياسية وحلم الهجرة الى ايطاليا. بجانب الحي يتموقع جنان الهاشمي الذي كانت تكسوه اشجار الزيتون المعطاء، وسط هذه الخضرة وما تتيحه من رطوبة في عز الحر، تحتضنك ساقية “القايدية” التي يقال انها كانت في ملكية أحد أعيان المنطقة لجلب مياه السقي من واد تساوت الذي كان يتغدى بدوره من جبال اقليم ازيلال. كنا نشبه “القايدية “بالمسبح الاولمبي، هذا المجرى المائي المتدفق ومن مسافات بعيدة، أحيانا يصبح لونه ترابيا مختلطا بالطين خاصة عندما تضرب الامطار الرعدية في عالية الواد “تساوت العليا”، تتدفق هذه المياه بسرعة في اتجاه السافلة “تساوت السفلى”. ورغم ذلك كان يمنح المراهقين والشباب سعادة لاتوصف، في غياب مسابح قريبة تطفئ حر الصيف..ترتمي الاجساد من على حافة الساقية في الماء البارد، تم تعود لتطفو على السطح، تتزود بالشمس مثل البطاريات في جو تطبعه الفرجة ومظاهر البسط . بنات الحي كن بدورهم يترددن على السواقي في تحد للتقاليد والاعراف، فالسباحة في القايدية و في مكان آخر اسمه البير وهو عبارة عن قناة قادمة من السد مياهها صافية، لم تكن حكرا على المجتمع الذكوري في غياب المرافق الرياضية والثقافية لتلبية رغبات الطفولة المقموعة. لا زلت استحضر بعض الصور وعمري لا يتجاوز آنذاك ثمان سنوات، كانا نقفز من الحافة الى الضفة الاخرى للساقية في استعراض للقوة والخفة كما يفعل ابطال الرسوم المتحركة من قبيل كريندايزر، السيندباد، نحن الذكور نقضي ساعات وساعات في الماء، نستحم، نستمتع بالعطلة الصيفية كأننا في كورنيش عين الدياب. قبل المغرب نعود إلى بيوتنا نجر وراءنا خيبة أمل، نتسلل خلسة، خوفا من العقاب ومن العصى التي ستروض اجسادنا المنهوكة، والسبب، أننا اخترنا السباحة في السواقي عوض تعلم حرفة تنفعنا مستقبلا، أو مطالعة أمهات الكتب خلال العطلة الصيفية استعدادا للدخول المدرسي. في الطفولة كان الحديث عن التخييم في الجبل او السفر الى المدن الشاطئية امرا غير مقبول من قبل الآباء، هؤلاء يدركون جيدا ان الكتاب (الجامع) يلقن الناشئة علوم الآخرة، بينما المدرسة تغرس في العقول علوم الدنيا هذا التصنيف الممنهج املته الحاجة الى التعلم، لان الاباء لم يحالفهم الحظ في التحصيل المعرفي لظروف خاصة بينما دخول فرنسا فسح المجال الى تعميم التمدرس. هذا الاصطدام الثقافي بالغرب الغير المرغوب فيه، قسم المجتمع بين مؤيد ومعارض للمدرسة ،كانت تحكي لي والدتي خلال طفولتها أن الراهبات Les Sœurs كن يطلبن الآباء ويتوسلن الاطفال من أجل التسجيل في المدرسة، احيانا كن يقدمن الحلوى بغرض أقناعهم من أجل التحصيل. كان المحافظون يعتبرون حفظ القرآن أفضل طريقة لغرس الفضائل في نفوس الناشئة ولو بالعنف الجسدي واللفظي، لتقويم الاعوجاج الحاصل في سلوكياتنا كأطفال وخوفا من اتساع رقعة المدرسة الفرنسية. في مرحلة الابتدائي كانت المدرسة العمومية فضاء يحتضن الجميع وبدون فوارق اجتماعية، كانت البدلة الموحدة اشارة على قوة وجاذبية الفضاء التربوي. كنا نشارك في الاعياد الوطنية نعي جيدا الدور الذي ينبغي أن نلعبه للرقي ببلدنا الذي كان يعاني من الجهل والأمية. كان المعلم سي حسان رحمه الله يدرس مادة اللغة العربية في بداية الثمانينيات، يزاوج في التدريس بين النمط التقليدي المعتمد على الحفظ وتلقين تعاليم الدين، والمنهج الجديد للمدرسة الوطنية الحاملة للقيم والمبادئ.
في الصيف عندما ينتهي الدرس الديني نهرول في اتجاه “القايدية”. نحتفي بالسباحة ( العومان) نجد ظلتنا في الحرية المطلقة، نتحول إلى ملائكة تحت الماء. كنا نرقص على طريقتنا “رقصة البجع” التي صممها الموسيقار الروسي تشايكوفسكي ، كنا نتقن فن تقليد الحيوانات التي نشاهدها عبر التلفاز او التي كانت تقتسم معنا نفس الجغرافيا في مشهد سوريالي تؤطره مخيلتنا ورغبتنا في القطع مع طابع الرتابة في لمسيد والمدرسة. الاحتفاء بالماء البارد كان يتخذ عدة اشكال، حركات بهلوانية على حافة المجرى، قهقهات تحت الماء وغناء باللغة الهندية.
كانت سينما أرمور الوحيدة بالقلعة قد عرفت النور في اواخر الاربعينيات من القرن الماضي على يد الفرنسي Brusson او ما كان يطلق عليه السكان ب “بروسو” حسب ما حكى لي الصديق سي عبد الله بوزيد الذي كان يتردد على السينما اواخر الستينيات من القرن الماضي اي في فترة الثورة الثقافية التي شهرها العالم والاحتجاجات الطلابية في عز الحرب الباردة . Brusson كان اول مراسل صحافي في تاريخ القلعة كان يشتغل لحساب الجريدة الفرنسية La Figi. بالنسبة لجيل بوزيد شكلت الشاشة الكبرى نقلة كبيرة في تعاطي الشباب مع الخطاب الفيلمي، خطاب رفع من الوعي الجماعي كما فتح عيون المشاهدين السراغنة على الصناعة السينمائية والنجوم الذين اطروا المشهد اواخر الستينيات. كانت سينما أرمور تتوفر على قاعتين، قاعة شتوية وأخرى صيفية. كانت تعرض افلام الفيكينغ والرومان والافلام الهندية والمصرية خاصة في شقها الغنائي. بعد الاستقلال أصبحت أرمور في ملكية أمحمد بنشليخة رحمه الله، هي نافدتنا نحن في الثمانينيات على الثقافة الهندية من خلال افلامها التي كانت تبعث فينا الامل بان الخير سينتصر على الشر، وان بطل الفيلم سيتزوج أجمل بنات الهند والسند. كان الصفير يهز أركان قاعة السينما خاصة عندما يقحم مخرج الفليم البطل في مشهد رومانسي، كنا نخفي خجلنا امام الكبار المنتشين بالمشهد، لكن غريزة التلصص على حميمية الاخرين كانت اقوى من الخجل. ونحن في بداية سن المراهقة، نطلق العنان للفانتازيا للهروب من واقع الرتابة بالقلعة، نذوب وسط الشاشة الكبرى، كانت الصور المحملة بالمعاني والرموز تسافر بنا عبر الزمن. عنصر “التماهي” الذي تحدث عنه كريستيان ميتز في السينما كنا نعيشه وفي أدق تفاصيله، اي محاولة تقليد البطل وجعله حاملا لافكارنا وقيمنا وحتى حماقاتنا اللامنتهية ومكبوتاتنا المقموعة في مجتمع محافظ. في الفيلم كنا نعشق الصور الجذابة، نتأمل الوجود، نبني شخصية افتراضية عبر الخطاب الفيلمي الذي يغرق في تمجيد “الأنا” يضرب في المناطق الاكثر ظلمة في اللاوعي الجمهور. ينتهي العرض على وقع موجة من الصفير والتصفيق التي لا يشاركنا إياها بطل الفيلم المتواجد على بعد آلاف الكيلومترات، لكن حضوره البصري وبلاغة الصورة السينمائية كانا أقوى، فهما يمنحان الجمهور إرادة الرجال الاقوياء، ينفخ في روح الانسان الإيمان رغم ان هذا الخطاب مبطن تسكنه الايديولوجيا وقناعات المخرج. نغادر القاعة المظلمة واحدا تلوى الآخر،ونغادر شخصية اطرت مخيال أجيال من السراغنة، هي شخصية “الطامانكو”، الوحيد الذي كان يسافر الى البيضاء لإقتناء الافلام التي يشاهدها جمهور القلعة، تتوزع بين الفيلم الهندي والمصري وافلام الريف الامريكي “الكوبوي”. كان يتحكم في اختيارات الشباب الفنية، ناذرا ما يشاهد الجمهور فيلما من السينما الايطالية او الفرنسية. كان الوحيد الذي يشغل جهاز العرض السينمائي، إذا حصل عطل في الجهاز تعطلت احلام الشباب ومعها توقف نشاط القاعة السينمائية الى أجل غير مسمى. كان دخول قاعة السينما غير مسموح به للنساء وهذا في حد ذاته مصادرة لحق من حقوق الانسان، نحن نتحدث عن السبعينيات والثمانينيات، الولوج الى السينما كان بمثابة تجاوز للخطوط الحمراء وإخلال بالاعراف والتقاليد السرغينية، بنات القلعة، كانت الرغبة تحدوهم للانعتاق من قبضة المجتمع الذكوري ومن قسوة الشارع. فالاختلاط في المدرسة غير ممكن تجد مدارس البنين ومدارس البنات كما هو الشأن بالنسبة لمدرسة بن سليمان، كان الشباب يستمتعون بافلام عمر الشريف وعبد الحليم حافظ وام كلثوم وغيرهم من نجوم السينما المصرية أنداك. كان تيار الرومانسي الحارف في اسمى تجلياته كانت الموضى العصرية تزحف شيئا فشيئا وذلك راجع الى الانفتاح الذي منحته السينما لجيل متعلم لكنه غير قادر على كبح جماح المجتمع المحافظ. كان الذكور يتماهون مع ممثليهم المفضلين بينما الاناث يقتصرن على مشاهدة التلفزة المغربية وهذه المشاهدة كانت مقننة ومحصورة في الزمان رب العائلة هو من كان يتحكم في تشغيل وافقال التلفاز . بعد انتهاء العرض السينمائي. ينتهي كل شيء، نعود الى واقعنا السرغيني الذي يشكل حقيقة وجودنا ومعيشنا اليومي، يتبخر سحر أبطال الافلام وتتلاشى جاذبية الفضاءات، بل تعجز السينما أحيانا في بناء الذات المقموعة وتكريس القيم الكونية في جيل ظل يرزخ تحت رحمة الخوف والاضطهاد الفكري الى درجة ان بعض الشباب ممن كانوا مدمنين على افلام الكراطي، انخرطوا في اندية فنون الحرب من اجل بناء شخصية تحاكي شخصية بطل، الشخصية المتسمة بالقتال ومجابهة المخاطر، شخصية البطل الذي يبقى خالدا.
كنا نكره الحرارة المفرطة التي تزحف على مدينة قلعة السراغنة، حتى الإسفلت (الزفت) الذي يكسو الطرقات يذوب من فرط الحرارة مثل الشمع، تلتصق النعال الجلدية بالارض. أحيانا يتحول الحر الى سراب يحيلنا على افلام الويستيرن حيث العطش يقض مدجع بطل الفيلم، وحيث لا شيء يتحرك مابين الظهر والعصر، حتى طائر السنونو (خوطيف) يختفي من المشهد. بين الفينة والاخرى كانت اعيننا شاخصة، كان ينتابنا الخوف من شباب حي الزاوية العتيق من مهاجمتنا وطردنا من “القايدية” ..إنها حرب المواقع للاستيلاء على المجاري المائية في عز فصل الصيف . كان هناك صراع ابدي بين الحيين كيف يمكن تقاسم الساقية المتدفقة، وتلبية حاجيات شباب الحيين ، احيانا كانت تنشب نزاعات بين الطرفين ينخرط فيها حتى الكبار إلى حين تدخل رجال الأمن. كان أبناء حي الزاوية يلقون بالحجارة من مسافات بعيدة، يصيبون أهدافهم، فتسيل الدماء بالطرف الآخر من المجرى. من المؤثرين في ذلك الوقت، خلافا للمؤثرين الذين يمثلون الشهرة الزائفة في ايامنا هذه ويبيعون الوهم لمتتبعيهم، كان المؤثرون في الثمانينيات لا يتكلمون لغة التفاهة والبزنيس، بل لغة التهديد والوعيد احيانا، ولغة السلام أحيانا أخرى. “كولومبو” وهو اسم مستعار، كان يقطن بحي الزاوية وهو حي قديم يرجع تاريخ تشييده الى فترة بناء ضريح سيدي عبد الرحمان، يتسم كولومبو ببنية جسمانية قوية كان همه تحرير المجرى المائي من الغرباء سلوكه كان يغرق في الانانية والنرجيسية كان سمينا خطاه تشبه خطى ابطال السومو…بالمقابل كان سلطان القايدية” هو “طارزا ” كذلك اسم مستعار، ابن حي القلعة الراشية، لا صوت يعلو على صوت “طارزا “. كان طويل القامة بنيته تثير الرعب في شباب الحي، وجهه طول يحيل على ملامح سكان التبت او الماغول عيناه تلمعان من شدة التعب، كان شقيا عنيدا، ظل طوال حياته مصدر للمشاكل، يمازح الجميع ويتشاجر مع الاقوياء في النزالات مقابل الحصول على المال. منزله يقع عند مفترق الطرق البرية، هذا الموقع كان يمنحه إمكانية مراقبة حركة تنقل الشباب والبضائع. إلى جانبه شاب آخر من نفس الحي “دوق فليد” قوي البنية رجل يعشق التحدي وجهه كان دائريا وصلبا، ملامحه تحيل على الانضباط والقوة كان شغوفا بالسينما الهندية ونجومها الكبار، احيانا كان يتقمص دور البطل في الأفلام التاريخية ذات الطابع الديني، يتقن دور البطل الذي يقتل الكفار. كانت تلك القصص والمشاهد رغم صغر السن تشكل آنذاك محطة مهمة للتثقيف وتغدية الروح في شهر رمضان ..كل واحد منا كانت تؤطره مجموعة من الافكار والهلوسات، كنا نحلم ان نصبح نجوما للسينما مثل جون بول بلموندو، رومبو، أو ان نعيش حياة أبطال المسلسل الفرنسي “فرسان الطيران” او المسلسل الامريكي الشهير “المنزل الصغير” وبطلته لورا التي تعيش رفقو اسرتها في تلك البراري الموحشة لكنها كانت جميلة حيث الطبيعة تمنح الانسان تلك الطاقة الإيجابية وذلك الخلود.
شخصيا كنت أتماهى مع شخصية المغني البلجيكي جاك بريل (1929-1978) الذي كان يخاطب مشاعرنا وأحلامنا عن بعد عبر أثير إذاعة البحر الابيض المتوسط ميدي أن ، كان بارعا في تجسيد الميلودرامات المجتمعية والتهكم من الاصدقاء والسياسيبن والنماذج التي طبعت حياته وحتى من الحب المزيف. كلماته وحركاته على المسرح كانت تحيل على الصدق والوفاء، روحه تسافر خارج العرض تم تعود لتعانق حب الجماهير، كان يجمع بين المغني والممثل والكاتب والمثقف و البورجوازي الذي انقلب على واقعه، غادر حياة البذخ ليعانق حياة التجوال والغناء في باريس وامستردام كان يملك يختا يمخر عباب المحيط الاطلسي للوصول الى جزر الماركيز في الكارايبي حيث يرقد جثمانه الى جانب الرسام العالمي فان كوخ. اثناء الآداء كان جسمه يتصبب عرقا، لغة جسدية معبرة، حمالة للرسائل والمعاني. بالفن كان جاك بريل يحارب متلاشيات زمانه ونفاق التاريخ والسياسة. اما اليوم فالفن في بلدنا يعيش أزمة ضمير وازمة أخلاق، لا صوت شجي ولا كلمات ثاقبة ولا رغبة عند بعض اشباه الفنانين في الاقلاع عن الغناء وامتهان مهنة أخرى .
في الطفولة كنا نركب موج التحدي في زمن كان فيه الخيار الوحيد للشباب هو الدراسة ولا شيء غير الدراسة، حتى تصبح انسانا نافعا ومنتجا تسمو بشخصك وبإنسانيتك قبل عائلتك. أو تجد نفسك في قبضة الدرك الملكي من أجل الخدمة العسكرية. “دوق فليد” و”طارزا” كانا اكبر سنا منا بكثير بعد ذلك انخرطا في سلك الجندية بالقوات المسلحة الملكية. عند عودتهما في اطار رخصة مؤقة (برميسيون) بزيهما العسكري يثيران فضول الشباب، كانا يستعرضان قوتهما في الحي حتى رجال الامن كانوا عاجزين عن الاقتراب منهما. كانا يحضيان بالحصانة الرمزية. اضفى الجيش على شخصية الشابين طابع الصلابة واستقامة لم يعد سلوكهما طفوليا كما كان من قبل ( تبردو). التأطير والتدريب حولهما الى شابين مستقيمين وهو ما كان يطالب به الأباء، كانت رغبتهم اولياءهم هو تربية الابناء على يد المخزن حتى يصبحوا أكثر انضباطا واستقلالية في غياب فرص الشغل، نحن نتحدث عن مغرب اواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، فترة تزامنت مع توقف المطر وزحف الجفاف. كنا نعاين ونحن صغار قطعان الماشية والحمير والبغال وهي تجوب الطرقات والازقة بعد ان تخلى عنها اصحابها بفعل نذرة العلف وغياب المراعي. طارزا ودوق فليد لم يرغبا في الارتماء بين أحضان العسكر، بل الحاجة الى العمل و ضغط الوالدين حسما في مستقبل الشابين. فهما يحكيان عن مغامراتهما و بطولاتهما في الجيش، إذ كانا يفتخران بالانتماء الى هذه المؤسسة في عز الحرب ضد الكيان الوهمي قبل بناء الجدار الامني.
حرب المياه لا تتوقف فحسب عند “القايدية” فالمسبح الطبيعي المسمى ” المغريب” كان خاضعا لسيطرة شباب حي جنان الشعيبي لا أحد يستطيع الاقتراب من المكان، بينما طارزا ودوق فليد لا يحتاجان الى جواز المرور الى الضفة الجنوبية للقايدية ولا أحد من ابناء الحي الذي يوجد فيه “المغريب” يجرأ على ازعاج الشابين حتى لا يتحول الاستحمام الى حمام دم ..مسبح يتسع للجميع لكن سياسة الاحتواء التي كان ينهجها البعض تصادر حقنا المشروع في الاستحمام. كان “المغريب” فضاء يوفر شروط السباحة، كان يوجد في موقع استراتيجي. المصطافون من الشباب يمكنهم مراقبة الطريق المحادية لجنان أجديد، ومقبرة سيدي صالح، عندما تمر اموات المسلمين بمحاداة “المغريب” كنا نلبس ثيابنا بسرعة ونصطف على جنبات المجرى المائي احتراما للجنازة. بينما البعض الآخر ينخرط في أجواء الدفن يذوب وسط الجماعة لتقديم المساعدة إن اقتضى الامر ذلك. كنا نخشى الموت كان يولد في دواخلنا ونحن صغار الاحساس بنهاية الكون وبعذاب القبر والتفكير العميق في العالم الآخر، في غياب جواب شاف حول حقيقة ما ينتظرنا بعد الحياة وهو نقاش ظل يؤطره فقط أهل الفقه والدين، هم من يملك الحقيقة. كنا نستحضر صور الموتى وهم يدفنون نهارا، بينما كان عذاب الليل اقسى من عذاب القبر. نعيش مسلسلا من الكوابيس ونحن نيام نصرخ، نركض، نتصبب عرقا، نمزق ثيابنا. أحداث النهار تتحول الى فيلم هتشكوكي ليلا، الام المسكينة لا تنام وهذا هو حظها في الحياة، تراقب الوضع وانت فاقد للوعي.
في الصباح نستفيق كأن شيئا لم يقع، بعدها نركض في اتجاه (رأس الدرب) الشبيه بمقر الامم المتحدة، هنا كانت تحدد تصرفاتنا ومخططتنا، قبل عملية اجتياح القايدية، كنا نجد في المكان الملاذ الآمن حيث تتحقق الاحلام وتتساوى الحظوظ بين الفقير ومتوسط الدخل. كان السفر الى البحر في حد ذاته مغامرة من مغامرات السندباد, كنا اكثر تدربا على مقارعة امواج الاطلسي والارتماء من اعلى الأجراف، لكن الذي كان يزعجنا في البحر نسبة الملوحة المرتفعة في الماء، ناهيك عن علو الامواج الذي كان يحد من قدرات الغرباء على مقاومة جبروت المحيط. بينما فضاء الواد يسمح بالتعايش هو مصدر للخلود لكنه خلوم مؤقت مرتبط بتدفق الماء، إذا جف فلن يقوم بالوظيفة الاساسية تحقيق التنمية الفلاحية. البحر والواد عالمان متناقضان لكل واحد منهما رموزه أسراره . حسب المعتقدات تنتصب العوانس وسط البحر في انتظار أن يلامس الجسد الانثوي وفي انسيابية الامواج السبع طمعا في الزواج بعد ان ظل الحظ متعثرا يطاردهن. فضاء الواد بدوره يغدي المخيال الشعبي بالوهم يمنح عالم المعتقدات القديمة جرعة اخرى تنضاف الى الانفعال الجماعي. لم يعد الواد يقوم بتلك الوظيفة الرمزية في ظل سيادة مظاهر التواصل الجديدة من فايس بوك وتويتر وانستغرام وقنوات الكترونية التي حول المعتقد السائد الى مادة لجلب المال وتحقيق البوز، وتحويل الاكشوانات الى نجوم تؤطر النقاش العام. في ظل هذا الوضع جفت العيون ومعها توقف نشاط القايدية وكاينو والمغريب، جف جنان الهاشمي تحول الى مرتع للمشردين وللنفايات. مرتادو السواقي منهم من مات غرقا ليس في الواد بل في البحر بعد ان ركب قوارب الموت بحثا عن وضع اجتماعي افضل يعيد لهم كراكتهم المسلوبة، منهم من حالفه الحظ في معانقة فضاءات اوروبا الفسيحة، ومنهم من بنى مستقبله هنا في الحي بعرق جبينه ظل وفيا لفضاءات السراغنة. مظاهر الفرجة التي كانت سائدة في عز الطفولة البريئة، حلت محلها اليوم مجاري جديدة، مجاري إلكترونية فاقدة للاحساس وللمشاعر الانسانية الفياضة التي كانت تمنحها في الثمانينيات من القرن الماضي. عندما نحج الى البحر نعاين جيش المصطافين، يغطي رمال الشاطىء كأن الامر يتعلق بموسم الحج الى نهر الغانج الهندي، حر الصيف كان يدفع ساكنة المدن الداخلية الى الارتماء بين أحضان الرطوبة التي يحضى بها الشريط الساحلي.
لنعد الى السراغنة فالطريق الرابطة بين القلعة ومراكش يخترقها الى يومنا هذا واد كاينو كان يتغدى من مياه جوفية صافية، عيون عذبة وباردة عندما تعانق السطح تسخن بفعل الحرارة، لكنها كانت من حيث الصبيب اقل من القايدية لا توفر الفرجة المرغوبة صيفا. هذه العيون إختفت من الخريطة بفعل الجفاف كما اختفت عيون سوق الاثنين لقديم حي المركب حاليا. كان واد كاينو، ينشط فقط في عز العواصف الرعدية التي كانت تضرب مناطق العطاوية، لعثامنة، الجبيل، كتاوة. عندما يخرج كاينو عن مجراه يغرق السافلة بمياه الفيضانات كما يغرقها بحمولة مهمة من الاخشاب والاثات والمعداة المنزلية، كان كاينو كائنا سخيا، معطاء، يجود بمياهه على سهول اولاد اصبيح و اولاد حمو، رغم ان هذا السخاء كان يتخذ طابعا موسميا ومؤقتا.
بالطرف الآخر من واد كاينو، حرب المواقع كانت تدور رحاها بين المصطافين، تزداد شرارتها كلما ارتفع زئبق المحرار إلى درجات قياسية..لكن ذلك لا يخفي طيبوبة ولاد حي جنان الشعيبي ولاد حي الزاوية وبراعتهم وقتاليتهم في المقابلات الكروية..هذه الندية الرياضية كانت تتجلى معالمها في دوريات الاحياء او خلال شهر رمضان. كانت أحياء القلعة الراشية لعوينة، الحي اليهودي الملاح،جنان الشعيبي، الزاوية، جنان بكار،العرصة، درب الطونية، السويكية من بين أقوى فرق الأحياء بقلعة السراغنة، كأنك تتابع الديربي البيضاوي او مقابلات الليغا خاصة الملعب الاولمبي لحي جنان الشعيبي خلف ضريح سيدي عبد الرحمان(انظر الصورة أعلاه). كانت الدوريات بمثابة اتفاق هدنة مؤقتة او بالاحرى سلام وصلح بين الاحياء المتناحرة، كان التنظيم في مستوى عال بينما الجماهيري كانت تحج بكثافة، كانت تردد الهتافات. امام هذا الحضور الكبير للشباب، اعوان السلطة، لمقدم والشيخ، كانوا قلقين من دخول الشعارات السياسية الى الملعب مع تنامي الاحتجاجات الطلابية بالجامعات و تشبع الشباب بالفكر الشيوعي خاصة وان القلعة كانت معقلا للمناضلين والمعتقلين السياسيين في تلك الفترة من الثمانينيات. من بين صناع هذه الفرجة المجانية في فصل الصيف، استحضر اسم السعيد الشاعري ..الريم …هم مخرجون وراء الكاميرا يؤتثون الاجواء اقصد، يؤطرون الدوريات. في الاطوار النهائية يذوب اللاعبون وسط التدفقات البشرية المناصرة لفرقها كانت الدوريات تغري الشباب، يتماهون مع النجوم في ذلك الوقت من ابناء الاحياء، كانت الدوريات تغدي الفريق الاول للسراغنة بأحسن اللاعبين ايام كان الفريق يمارس بالقسم الوطني الثاني عن مجموعة الجنوب، %100 من اللاعبين من السراغنة كذلك الفريق الثاني “الفلاحة”.
في الصيف كنا نشرب “المونادا” امام المدرسة الابتدائية وهي عبارة عن مسحوق احمر أو وردي يتم وضعه في آنية من الطين (خابية) تصل سعتها احيانا إلى خمسين لترا او اكثر، شراب مشبع بالسكر، يهيمن عليه اللون الوردي الذي يحيل على عصير ورود قلعة مكونة. كان “طارزا” يقتني دلاعة من السوق تم يضعها فوق كتفيه كانه يحمل رصيفا اسمنتيا. كل واحد منا كان يساهم في تاثيت الوليمة بجنان الهاشمي باللحم او الخضر او الزيت، اما السمين من بين الشباب، تكمن مهمته في النفخ لتأجيح لهيب النار كان وجهه شاحبا تفوح منه رائحة الدخان بينما عيناه تصبحان حمروين من فرط النفخ يشبه “أبو لهب” لكن كان يعطي درسا في التضامن والتضحية من أجل المصلحة العامة.
في الصيف كان الشباب يحلقون رؤوسهم الى درجة الصفر للتخفيف من حدة الحرارة. لكن عند مرورك بالحي ينهال عليك بعض الفضوليين من الشباب بالضرب، كأن الأمر يتعلق بقرع الطبول ترتسم على رأسك الحليق الوان قوس قزح, كأنك مجرم حرب، ذنبك انك اخضعت راسك للحلاق الذي كان في ذلك الوقت يستمد سلطته الرمزية من صداقته بالعائلة، يجيد التصليعة ولا شيئا آخر، كانت اصابعه الرطبة تداعب شعرك في انسيابية قبل التخلص منها وحلقها بكامل ” الزيرو” في اطار دمقرطة الرؤوس وتكافؤ الفرص، وهو طقس يرتبط اساسا بحلول موسم الصيف و بارتفاع درجة الحرارة. مقارنة بتسريحات الشعر التي يتباهى بها جيل اليوم مثل التشويكة والتايزن. من مغامرات الطفولة كنا نبتعد عن الحي في اتجاه طريق بنكرير لهدف واحد قطف فاكهة التوت التي كانت أشجارها تزين جنبات الطريق. يقال ان المعمر الفرنسي قام بغرس الكيلومترات من هذه الاشجار لتزيين الطريق وتوفير الظل للسائقين، أما في فصل الصيف تجد طوابير المراهقين تنتظر قطف فاكهة التوت الابيض والاسود . كان اندفاعنا الشبابي يقودنا الى تسلق الأشجار الباسقة والتسلل إلى اعشاش الطيور بحثا عن البيض، أحيانا كانت تأوي الأفاعي والزواحف والنحل كذلك، كان تصرفنا تطبعه الجرأة والعفوية في تعاطينا مع الطبيعة.
نتنقل عبر الفضاءات ونسبح في مختلف المجاري المائية التي تخترق أراضي السراغنة . ولكي نطمس معالم الجريمة اي السباحة كنا نطلي اجسادنا بزيت لوسيور او زيت العود، حتى لا نثير انتباه اخوتنا الكبار تفاديا للعقاب، لا لشيء سوى لاننا قضينا اليوم في السواقي. ومرد ذلك كما سمعنا ونحن صغار ان العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ مات بسبب حمى المستنقعات، إذ كان دائم التردد على نهر النيل العظيم من أجل السباحة، ما زاد من مخاوف الآباء على أبناءهم …
كان الحديث عن حقوق الإنسان أمر مستهجنا في الطفولة، كانت حقوقنا مصادرة تبعا للتقاليد، لأن السلطة الأبوية كانت فوق الجميع في مجتمع ذكوري لا يؤمن بالإبداع والانفتاح والتعبير عن انتظاراتنا الثقافية، بالفنون الجميلة وغيرها من أوجه الحداثة آنذاك. لكن بالمقابل حينما اعيد استحضار شريط الاحداث التي ميزت سنوات الثمانينيات يجرني الحنين إلى تلك الذكريات الجميلة التي اتسمت بالقناعة والبساطة والعفة، في زمن التحول التكنولوجي الذي طبع عالم الصورة. لا اتحدث هنا عن الصورة الرقمية التي جاءت نتاج التطور التقني، بل الانتقال البصري من الأبيض والأسود إلى التلفزيون المؤثت بألوان الطيف. كانت ثورة علمية كبيرة ونحن نشاهد عند ولد عطية عبد الرحيم صاحب مقهى، مونديال 86، كانت الألوان تخاطب مخيلتنا وأحلامنا وآمالنا، كانت تنقلنا من حقبة سطوة الابيض والاسود (الرتابة) الى حقبة الافتتان وسحر الألوان في مدينة كانت بمثابة مختبر تجارب لأجيال وأجيال، منها المناضلة سياسيا مثل عبد السلام المؤذن وسي بوبكر عرش ورحال أجبيهة وابن عمي حميد الزرورة رحمهم الله وآخرون لم اتذكر أسماءهم، كانوا يؤمنون بالتغيير من اجل غد افضل في ظل سنوات الرصاص، زج بهم في السجود وهم في ريعان شبابهم، كانوا مفكرين، مثقفين سبقوا زمانهم لم ينصفهم التاريخ ظلوا رموزا شامخة في الذاكرة الجماعية للسراغنة شموخ الجبال. الى جانبهم كان هناك جيل من المثقفين والباحثين من بينهم عالم الانتروبولوجيا المشهور عبد الله حمودي وعالم السوسيولوجيا في الوطن العربي محمد الناجي والاعلامي الكبير المرحوم محمد المؤذن. ومنهم كثير من حفظة القران ومن حاملي كتاب الله.
الثمانينيات من القرن الماضي، ستشكل قطيعة مع الواقع الاجتماعي داخل فضاء السراغنة. سيحدث تحول جدري في منظومة القيم التي كان يؤمن بها الشباب بالقلعة. أي اصبح البحث عن آفاق أخرى امرا لامفر منه، معانقة نسائم الحرية والانفتاح بالضفة الشمالية للمتوسط. عرف الاقليم هجرة مكثفة الى إيطاليا قصد العمل من أجل تحديد وضع اعتباري لشريحة واسعة من المواطنين. إذ اتخذت الهجرة ذلك الطابع الجماعي خاصة قبل سنة 1989، إذ كان السفر الى ايطاليا عبر الطائرة بدون تأشيرة، ومعها تحولت معالم القلعة بدخول سيارات مرقمة بالخارج، الحديث باللغة الايطالية، وبالتالي سادت بعض مظاهر الثقافة الغربية شيئا فشيئا في المنطقة بسبب رياح التغيير التي هبت على الاقليم. فهذه الجالية يرجع لها الفضل في تنمية المنطقة واخراجها من دائرة الركود والاهمال، بمساهماتها الاقتصادية وانقاذ آلاف الاسر من الفقر والحاجة. كما شيدت جسرا تواصليا بين القلعة والعالم.
فتحية لسراغنة الداخل والخارج الذين يستحضرون وقائع وأحداث من تلك الطفولة المنسية.
حسن لحمادي
ولد القلعة الراشية.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق