تابعنا على انستغرام

” ناصر الحرشي” في قراءة نقدية ل«آخر يوم لمحكوم بالموت» لـفيكتور هوغو:عربة الموت ونبض الإنسان

تساوت 24
ثقافة و فن
تساوت 246 أبريل 2017
” ناصر الحرشي” في قراءة نقدية ل«آخر يوم لمحكوم بالموت» لـفيكتور هوغو:عربة الموت ونبض الإنسان

ينبثق هذا الملكوت النصي للروائي الفرنسي فيكتور هوغو بسحره العميق الدلالة من فسيفساء الواقع المحموم المحكوم بمناخ تعبيري يفصح عن معاناة وأشكال عناء تعرفها الإنسانية. تعمده رؤى فكرية وجمالية تمتح مقوماتها الأسلوبية من نسيج لغوي ذي نبرة شعرية رومانسية محورها الذات في خلجاتها وسكناتها، وكذا سكرات انفعالاتها نافذة إلى زواياها المعتمة لفهم كوامنها والاطلاع على مكنوناتها. إن الكاتب يرسم لوحة قاتــــمة عن حياة سجين محكوم عليه بالموت، واصفا عالمه النفسي المشروخ داخل زنزانة وحيدا، حيث يتحدث بضمير الأنا عبر مونولوج داخلي عن مصيره المحتوم الذي ينتظره وعدم تقبله لفكرة الموت التي أصبحت هاجسا يجتاحه بعد أن كان ينعم بحياة ملؤها الحرية. تكسو حديثه نبرة بوح تعبر عما يجول في نفسه من مظاهر القلق والجزع، كما تعتريه أحلام وكوابيس وأحلام يقظة تضفي بعدا دراميا وجوا جنائزيا يغمر المشهد الروائي برمته. في كل الأحوال تشكل الرواية تشخيصا قويا يحفر عميقا في شخصية سجين في وضع كينوني متفاقم وصل حده الأقصى من الانهيار لأنه سيحرم من حقه في الحياة، وكما هو متعارف عليه فإن غريزة البقاء مبثوثة في كل كائن حي. في الواقع هي خريطة نفسية بدأت تشيخ وتذبل لسجين بعدما انسدت في وجهه الأفاق والأمل في الرحمة والعفو. فرمزانية الموت بسلطته وجبروت حضوره هو مكون وركيزة أساسية تقوم عليها العمارة النصية. فالموت هنا يتجاوز مفهومه التقليدي كنهاية بيولوجية وانتقال من عالم الحركة إلى عالم السكون، إنه إشكالية فلسفية وموضوع أنطولوجي يستدعي البحث والتمحيص. فموت الروح وموت العقل والحس الإنساني النبيل أشد بكثير من فناء الأجساد، كما تنطق بذلك ثنايا النص. إنه انخراط في مصارحة ذاتية يعزي بها البطل السجين نفسه، وهو جلد لذات آثمة وقعت في يد عدالة هي أيضا آثمة، فلا أحد معصوم هنا كما يلمح الكاتب، فالجلاد ضحية والضحية جلاد والكل شريك في الجريمة.. أو هي حرب الكل ضد الكل. هذا المتن السردي يشق طريقه بفسحة مساحة مرجعية عبر لغة شاعرة وواصفة تفيض بها قريحة سجين يمارس ذاكرته بنسغ جارف، عله يجد قلبا رحيما يمنحه صك غفران. إنها إشارة ضمنية لمزالق الظلال والتيه التي يعيشها السجناء في هذه القبة الحكائية. هؤلاء المغيبة أصواتهم.. الفانية أرواحهم.. يبتكرون أحلامهم ومراياهم المنكسرة وهم في محاولة يائسة لاستعادة العلاقة مع الكون والوجود. بهذه الروح المنذورة للسؤال عن طبيعة هذه الرقعة النصية مادامت الكتابة هي ناقلة رؤى للوجود، لا يمكن أن تقف على خط الحياد. ولأنها تشكل وجهة نظر مبطنة وغامضة تحمل وعيا منحازا عن الذات والعالم، غالبا ما تكون ثاوية في النص الإبداعي لذلك نلمس انحياز الكاتب وتعاطفه مع هؤلاء المساجين، رغم جرائمهم عبر نزعة ريبية يلبسها لبطله المحكوم عليه بالموت، في لغة نقدية لواقع المؤسسة السجنية ومعاملتهم اللإنسانية «نوعية الطعام، نوعية الفراش، الهندام، الخدمات المقدمة». تمتاز مؤسسة العدل بشططها ومؤسسة الأمن بانحرافها، والمؤسسة الدينية بسلبياتها ومباركتها لكل أشكال الظلم والاستبداد. وعلى أي حال من خلال هذا الدفق الحكائي، يشير صاحب النص إلى فكرة العدالة في ارتباطها بالسلطة ووسائلها اللاإنسانية في تطبيق القانون، كعقوبة الإعدام مثلا التي يدينها الكاتب من خلال تشخيصه للحالة النفسية المريرة، التي يتجرع غصتها هذا السجين التعيس في انتظار مواجهته للمقصلة، فضلا عن ضياع أسرته بسبب هذه العقوبة، وهي المكونة من أم عجوز مريضة وزوجة هي بدورها مريضة وطفلة عمرها ثلاث سنوات في عمر الزهور اسمها ماريا. وهي الذروة في مقام وضعه الفاجع، وهنا نلمس دعوة صريحة من الكاتب لإصلاح منظومة العقوبات، أم الأمر هو مجرد رد فعل عنيف ومشروع من لدن الدولة ضد نوازع الشر والتدمير؟ هذا البطل يعلم مسار محنته، وهو في حالة انفجار تعبيري يستعيض به عن المآل التراجيدي المنتظر. كما أن إحساسه بالعزلة والضآلة ثم غياب دفء العلاقات البشرية، ينضاف إليها عدم تعاطف الجماهير مع السجين وصراخهم الهستيري، فور رؤيتهم لعربة الموت أو مشهد الإعدام أطفأ نبض الإنسان بداخله. تظهر الطاقات المذهلة للكاتب في توظيفه الاستعاري للشعر رغم موضوع العدالة، القانون.. الجريمة والعقاب المسيطرة على كل مستويات النص، وهي بغاية تلطيف الأجواء من صوت المرافعات المنفر، وفضاءات المحكمة الفاقدة لكل وجدان. إنها استعارة شعرية رائعة في المقام الأول تنقل وميضها القمري إلى دنيا السجين المظلمة، مانحة إياه ديدنا ومرفأ. فصوت الطفلة وهي تغني وتنشد تحت نافذة زنزانته أغنية « ليغلونفا ماليغيت» يطرد عنه الإحساس بوطأة شبح الموت وقرب نهايته.. إنهـــــا لحظة التمثل للجمال وللخلود وعناق لأشواق الروح في تدرجها عبر مقامات التزكية والاستعلاء، لأنها تعكس جوهره الباطني الطاهر.. كما هي تمثل انتصارا لفكرة قدسية الحياة. فموسيقى الكلمات بسحرها وبزخرفها اللفظي التي تؤثث هذه الجبة النصية تخفي وراءها فجيعة كبرى.. إنها منظومة العقوبات وعدم أحقيتها في إزهاق أرواح الناس وضرورة تعديلها، وهو ما حاول المرسل/ الكاتب توصيله عبر مضمره الخطابي. وهي دعوات الرومانسيين التي تدعو إلى الثورة على كل القوانين والقيود.. وهو ذاته المذهب الذي يدين به فيكتور هوغو من ألفه إلى يائه. يعتبر الزمن معضلة أكيدة في حياة هذا السجين الذي لا يحمل اسما إلا وضعه كسجين، ولا أدل على ذلك العنوان المسطور هذا النص الصغير الذي يختزل نصا كبيرا، أي اليوم الأخير في إشارة إلى هذا الظرف الزمني الوجيز من عمره الذي يفصله للمرور إلى حياة أخرى أزلية، ملغيا ماضيه وحاضره ومستقبله ليصهره بفحيح عذابات اللحظة. فالسجين مسكون بهاجس الموت وهو ما يبوح به في بداية الفصل الأول من الرواية «محكوم عليّ بالموت» إنها بلاغة الموت التي تلغي كل الأزمنة ليسود زمنها المطلق، وهي امتداد لزمن لا متناه ولانهائي على حساب زمن فان هو زمن البطل الوشيك على النهاية. ثم الظهور الفانتازي لموتى أعدموا سابقا في ساحة «جريف» وهي الفضاء المكاني لتنفيذ الأحكام، ثم قيامة هؤلاء في وقت متأخر من الليل مع بروز مخلوق شيطاني وهو ينحر جلادا في طقس قرباني، تتغيى القبض على حالات النفس في وضع متداع ومتشظ من هول هذا المشهد الكوابيسي. وهي الحالة التي يمر منها السجين قبل تنفيذ الحكم عليه. إن الذاكرة تمارس سطوتها عبر مجموعة من الكتابات الخربشية الشذرية المنقوشة على جدران الزنزانة، من طرف سجناء مروا من هناك قبل ملاقاة حتفهم، حيث خلدوا أسماءهم كما يخبرنا الراوي بذلك، وذلك لكي ينتصروا على موتهم. يعود بنا البطل عبر تقنية الفلاش باك إلى زمن الطفولة النقية، بروحه الوثابة وهي تعيش ألقها حرة طليقة مع صديقة طفولته الأندلسية «بيبيتا» يحكي تفاصيلها بمتعتها ونكتها، وهي معطى لحيوات عاشها بكل امتلاء في وضع ذاتي وروحي، يشع نورا وبهاء قبل أن يختطفه ظلام الزنزانة الدامس وتكشيرة وجه السجان وعبوس الجلاد وظلال المقصلة. تدور عدة شخصيات في فلك الراوي السجين، منها شخصية العجوز المحكوم عليه بالمؤبد وقصة متاهته في دروب الجريمة ثم حراس السجن، رجال الدرك، المفوض القضائي، الوكيل العام، رجل الدين، وهم بدورهم ليست لهم أسماء. إنهم فقط كائنات تفتقر لهوية الإنسان أو هو غياب البعد القيمي في علاقاتهم متلفعة بكثير من الفقر والغبن بعيدة عن أي سمو ونبل إنسانيين، وكأن هذا الغياب يضاعف من ضياعها واغترابها مسجونين وسجانين، مما يولد حضورا قويا لمعجم الموت في اتساعه الشمولي وفي استبداديته بكل ما يحمله من معان ورموز ودلالات. يحمل هذا المنطوق الخطابي وعيا تاريخيا ينبض بأصوات عدة يتداخل فيها البعد الشعري، الغنائي، الجمالي، التأملي بالبعد المقارباتي القانوني والحقوقي وهي شبكة ابستميائية هيكلت بنية النص الداخلية مدرجة إياه في خانة أدب السجون. رواية «آخر يوم لمحكوم بالموت» هي سمفونية حزينة تترجم الحالة النفسية المضطربة لسجين بين وضع مؤسس على الحلم مع العد العكسي لسلطة زمن ينضح مرارة وقتامة.

٭ كاتب مغربي

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق